اراء ومقالات

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
اهلا وسهلا بكم في موقع الباحث علي سيدو رشو

في بلاد سومر القديمة نشر اور-نمو ، شرائعه باسم الإله الأعظم "شمش" ذلك أن الحكومات سرعان ما رأت في الالتجاء إلى الدين من فوائد سياسية ، فلما أن أصبحت الآلهة ذوي فائدة من هذه الناحية تضاعف عددهم مراراً إلى أن أصبح لكل مدينة ولكل ولاية ولكل نشاط بشري اله موح مدبر(1) . وبذلك فان الحكومات آنذاك كانت تستخدم الآلهة كوسيلة لتحقيق أغراض سياسية وتقوية سلطة الملوك بواسطة النشاط الاقتصادي الذي يحققه الكهنة بأسم الآلهة. وقد عثر في الخرائب السومرية على لوحة نقشت عليها بعض الصلوات وجاءت فيها هذه النذور الدينية الغريبة " إن الضان فداء للحم الآدميين وبه افتدى الإنسان حياته " ، وأثرى الكهنة من هذه القرابين حتى أصبحوا أكثر الطبقات مالاً وأعظمها قوةً في المدن السومرية (2) . وبتقدم الحضارات وقيام الحروب بين الإمبراطوريات القديمة لتبتلع القوية الضعيفة منها ، كانت المعتقدات الدينية والفكرية تتغير هي الأخرى وكان يزداد الميل لاستبدال حكم آلهة الظواهر المتعددة بسلطان الإله الواحد والاقتراب أكثر من فكرة الإله الملموس إلى فكرة الإله المجرد (3) .
في عام 1380 قبل الميلاد (4) ، مات أمنحوتب الثالث وخلفه أبنه امنحوتب الرابع الذي شاءت الأقدار أن يعرف باسم "إخناتون" ،ولم يكن يتولى الملك حتى ثار على دين آمون ، وعلى الأساليب القديمة التي يتبعها الكهنة ،وكان الملك مثالاً للطهر والأمانة ، وأعلن في شجاعة أن تلك الآلهة وجميع ما في الدين من احتفالات وطقوس كلها وثنية منحطة ، أي أن الإنسان بدأ يقيس الأمور بأساليب جديدة وبوعي وإدراك اشمل واكثر دقة وتحديد ، وأن ليس للعالم الأ اله واحد هو "آتون"، وأن الألوهية أكبر ما تكون في الشمس مصدر الضوء وكل ما على الأرض من حياة . ومهما تكن عقيدته في التوحيد ، فقد استعان ببعض الترانيم القديمة وبعض قصائد في التوحيد نشرت في أيام سلفه نشيداً توحيدياً للشمس على لوح محفوظ في المتحف البريطاني . فهي أول شرح بليغ لقصيدة التوحيد ، وأن في القصيدة مذهب حيوي وأن " أتون" لا يوجد في الوقائع والانتصارات الحربية بل يوجد في جميع صور الحياة والنماء ، وأن هذا الإله الحق خالق حرارة الشمس ومغذيها ، وليس في الكرة المشرقة الآفلة من مجد ملتهب إلا رمز للقدرة الغائبة (5) . وأن ما يهمنا من هذا هو ، أن العبادة كانت للشمس لما تراه الأقوام من الأشعة والنور التي تضيْ وتخصب الأرض ، وهناك إشارة واضحة إلى أن القدرة الغائبة هي التي تهب الشمس المتجدد في الظهور والإشعاع والأفول . فقد تصور هذا الملك، أن قرص الشمس يشع على العالم كله " الإله الواحد لا اله غيره "، وبلغ من تحمسه لدينه الجديد ما جعله يناوئ الآلهة الأخرى ويحاول القضاء على عبادتها وحمل الناس على حصر العبادة بذلك الإله الواحد الذي سماه " أتون " وأراد أن يفرض عبادته على جميع أنحاء الإمبراطورية . ففي هذا التطور الروحي بإسناد مصدر الحرارة والإشعاع والخير والنماء الناتج من قرص الشمس إلى قوة أعظم ، هي التي تهب للشمس تلك القوة إشارة واضحة إلى تقدم فكر الإنسان باتجاه التوحيد، بأن وراء كل قوى الطبيعة اله تخضع لارادته جميع __________________________________________________________
ديورانت ، قصة الحضارة .م1 ج2 . الشرق الأدنى ص168 .
المصدر نفسه : ص28 .
د. خليل جندي ، نحو معرفة حقيقة الديانة الايزيدية ، ألمانيا .
ورد في الصفحة 171 من كتاب العرب واليهود في التاريخ ، أحمد سوسة ، أن إخناتون عاش ما بين 1375 - 1358 ق.م. ، أي بعد إبراهيم الخليل (ع) بستمائة عام وعلى هذا الأساس فان عمره دام 17 عاماً فقط . بينما ورد في قصة الحضارة ، إن عمره لم يتجاوز الثلاثين ومات 1362 ق.م. والنفس أميل إلى قول ديورانت.
سوسة ، المصدر السابق : ص175 .

تلك الفعاليات التي تظهر وتزول وأن فلسفتها قريبة من فكرة ظهور الديانات المركزية التي اعتمدت النبي والكتاب وارشاد الناس إلى الطريق الصحيح . وقد ظهرت آنذاك آراء متعددة بشأن ظهور اله التوحيد ، ومنهم من يربطه بقيام دولة ميديا 622 ق.م. التي مهدت الطريق للانتقال من ظاهرة تعدد الآلهة إلى اله التوحيد ، ومنهم من يقول بأنه بدأ مع البابليين وتسارع في كل مكان فيما بعد. ويقول الايزيديون بأنهم أول من توصلوا إلى فكرة ( خودي – الله ) وطاووس ملك (1).
لقد سار إنسان وادي الرافدين القديم في تأملاته الفكرية ودراسته لواقع الحياة آلاف السنين ممحصاً لأحداث الحياة ومظاهر الطبيعة ، ومعللاً لما كانت تضفي عليه من خير أو شر، ثم بدأ يقتحم العقبة ويختار التجربة حتى أدرك بأن الواقع الذي من حوله يفسر له كل غموض محير بالنسبة لمداركه العقلية واحساساته وملاحظاته العملية (2) . فبلاد ما بين النهرين لم تكن موفقة كبلاد مصر ، فليس فيها جدران تدون عليها بعلامات تعبر عن الإنجازات ، بل توجد فيها أبراج الآجر ذات الارتفاع البسيط المتهدمة التي يلتصق بها أسم وشهرة برج بابل (3) ، وظلت كتاباتها مطمورة تحت الرمل والطين والأنقاض المتراكمة لآلاف السنين . ولقد تبدلت النظرة إلى تلك الأطلال والرموز غير المفككة وأصبحت مجالاً مهماً لمحاولات فكرية أدت بعلماء أوربا إلى التنافس في سبيل الحصول على الغنائم لمتاحفها النامية ، وأدت تلك المحاولات إلى الكشف عن الحضارة التي أدت إلي وجود مثل تلك الأطلال والكتابات إلى ما قبل أكثر من 4000 سنة . وتعتبر النصوص المدونة على الألواح الطينية ذات أهمية أكثر بكثير من الأطلال المكتشفة . وهي تؤكد بأن الحضارة الإنسانية بدأت من تلك البلاد وانتشرت إلى أنحاء العالم ، حالها حال المدنية التي تنشأ دوماً في كوخ الفلاح ولكنها تزدهر في المدينة . فكانت المعتقدات السومرية ومن بعدها البابلية عاملا مهماً في تغليب إنسان وادي الرافدين القديم على الأرض فمنحته الأمل البعيد ، أمل الخلود في الحياة الثانية ، أمل البعث بعد الموت وكان هذا هو الباعث الحقيقي لقيام الحضارات وازدهارها منذ فجر التأريخ .
يمثل تاريخ الكتابة عن الأيزيدية امتداد منذ خمسة آلاف سنة ، أي منذ دراسة الظواهر الطبيعية التي كانت تسيطر على أداء فعاليات الإنسان ، تاريخ سومر وبابل وآشور وما خللتها من فترات تاريخية لم تبرز إلى الوجود بسبب التقييد أو إهمال مؤرخي التاريخ لبعض أهم التطورات والمجتمعات آنذاك . لقد كان التاريخ حينها يهتم بتدوين فعاليات الملوك ومماتهم ، وما تخص الآلهة وأبرز نشاطاتها ، ولكن كان يترشح عن تلك النشاطات ما يفيد الباحث التاريخي بحيث يستنتج ما يهمه إضافة إلى المكتوب في الرواقم الطينية التي طمرتها أحداث الزمن والطبيعة .ولقد اكتشف مؤخراً أحد خبراء الآثار واللغات القديمة ( السومرية والبابلية والآشورية ) ، بأن كلمة (إيزيدي ) تعني الروح الخيرة أو السائرين على الطريق الصحيح . وحسب هذا الاعتقاد فإن تاريخ الإيزيدية يرجع إلى الألف الثالث قبل الميلاد ، وهم بقايا أقدم ديانة من منطقة الحضارات العظمى في الشرق . ومما يؤكد هذا ، ما ورد في قصة الحضارة ( الشرق الأدنى م1 ، ج2 ، ص300 ) ما نصه : كان الشرق الأدنى في عهد نبوخذنصر يبدو للعين الفاحصة البعيدة كأنه بحر خضم يتلاطم فيه خليط من الآدميين ، يأتلفون ثم يتفرقون ، يستعبدون ثم يستعبدون ، يأكلون ثم يؤكلون ، يقتلون ثم يقتلون ، إلى غير نهاية . وكان من وراء الإمبراطوريات الكبرى ومن حولها مصر وبابل وآشور والفرس يضطرب هذا الخليط من الشعوب نصف البدوية نصف المستقرة ؛ الكمريين ، القليقيين ، الكيدوكيين ،البثرينيين ، الاشكانيين ، الميزيين ، الميونيين ، الكربيين ، البمفيليين ، اليزيديين ، واللوكينيين والفلسطينيين والعموريين والكنعانيين والآدميين والمؤابين ، وعشرات العشرات من الشعوب الأخرى التي كانت كل شعب منها يظن نفسه مركز الكون ومحور التاريخ ، ويعجب من جهل المؤرخين وتحيزهم ، إذ لم يخصوه إلا بفقرة أو فقرتين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) جندي ، مصدر سابق : ص
(2) سهيل قاشا ، عيد رأس السنة البابلية ، التراث الشعبي ، العدد (5) ، مجلد (6) – 1975 .
(3) ليو وبنها يم ، بلاد ما بين النهرين ، ترجمة سعدي فيضي عبد الرزاق ، بغداد : 1986 ، ص .
(4و5) ديورانت ، مصدر سابق ، ص

وكان هؤلاء البدو طوال تاريخ الشرق الأدنى خطراً يهدد الممالك التي كانت أكثر منهم استقراراً والتي كانوا يحيطون بها من كل الجهات تقريباً.
وكان الجدب يدفع بهم بين حين إلى حين إلى هذه الأصقاع الغنية فتنشب بينها وبينهم الحرب او يتطلب منها ذلك الاستعداد الدائم للحرب . وفي بحر الأجناس المتلاطم أخذت بعض الدول الصغرى تتشكل ، ويكون لها نصيب صغير في تراث الجنس البشري ، وإن لم يزد نصيبها هذا على أنه تكون ناقلة أو موصلة . ويهمنا من هذه الشعوب المتيانيون وليس ذلك لانهم أعداء مصر الأقدمون في الشرق الأدنى ، بل لأنهم أول الشعوب الهندوربية التي عرفناها في آسيا ولأنهم أول عبدة الآلهة ( مثرا وأندرا وفرونا ) ، التي انتقلت منهم إلى بلاد فارس والهند ، فأعانتنا بانتقالها على تتبع حركة الجنس الذي كان يطلق عليه من قبل الجنس الآري ) *. انتهى الاقتباس.
إن في هذا النص ، إشارة واضحة ودلالة قوية على قدم الإيزيدية كقوم يحمل نفس التسمية الحالية في منطقة وادي الرافدين قبل ظهور الديانات المركزية ، وإنها ساهمت بخلق تلك الحضارة في سومر وبابل وآشور في مرحلة تعدد الآلهة وما بعدها . ويفترض إنها ساهمت كذلك في خلق وتدوين الأساطير ودراسة الطبيعة وحركة الكون والفلك ومراقبة النجوم وتدوين الأحداث آنذاك ، وهذا واضح جداً في الأدب الديني الإيزيدي الآن من حيث التقويم وحساب الفلك والأعياد والمناسبات الدينية . وبذلك لا يمكن تجاهل دورها رغم المعلومات القليلة التي وردتنا من تلك الفترة الزمنية السحيقة وتجاهل المؤرخين لدورها ، والتركيز على بعض تلك الأقوام دون غيرها ، فإن ذلك أمر وارد بالنسبة لمؤرخي التاريخ ، خاصة إذا ما عرفنا يأن مادة ديانات ما بين النهرين كانت إما آثارية أو نصّية ( أي إنها لم تكن مكتوبة كما في مصر القديمة ) ، وأن المادة الآثارية تتألف من بقايا الأبنية خصوصاً تلك التي خدمت الأغراض الدينية كالمزارات والمعابد وأبراجها بالإضافة إلى مادة العبادة وهي التماثيل والطلاسم . وقد يبدو أن مادة التشبيه بطريقة التماثيل والتصاوير كالمنحوتات والأختام والألواح الطينية فإنها من المحتمل أن تلقي الضوء على ديانة بلاد ما بين النهرين وعندئذ من الممكن التفكير بالتشبيهات القصصية المقصود منها تصوير قصة الإله ، بل إنه لا يبدو لمثل هذه التشبيهات أن حصل لها أي دور مهم في ديانة بلاد ما بين النهرين ، ولهذا سيبقى عالم الأسطورة عبارة عن مستودع لمستوى الأدب الخلاّق خلال كل تاريخ بلاد ما بين النهرين (1).
ويشبه الزميل الدكتور خليل جندي في كتابه الموسوم " نحو معرفة حقيقة الديانة الايزيدية " ، بأن الايزيدية تشبه بحد ذاتها تله أثرية طمرتها رمال آلاف السنين ولم يجر التنقيب عن كوامنها إلا قليلاً ، ومن يبتغي معرفة حقيقة معتقدات الايزيدية ، عليه التوقف عند معرفة ظاهرتين أساسيتين مترابطتين من ظواهر الدين : أولهما الايزيدية وطاووس ملك ، وثاني تلك الظواهر هي معرفة أصل ومنبع الأعياد والطقوس الدينية المرتبطة بالتغيرات المناخية .
وبما أن الظاهرة الأولى تشكل المرتكز الأساسي لعماد الدين الإيزيدي وكذلك نقطة خلافه مع الأديان الأخرى ، عليه كنت قد ارتأيت منذ فترة طويلة في البحث في ذات الموضوع ، ولكن ظروف معينة حالت دون المباشرة به لحد الآن ، من خلال إجراء بعض المقارنات بين النصوص الدينية أو بين ما جاءت بها الأديان بخصوص هذه الظاهرة بالذات . فعسى أن نوفق في ذلك ، آملين من السادة الباحثين وذوي الخبرة والاختصاص الرد على ما ترد فيه من أفكار أو توجيه نقد أو بيان الحقائق التي لم نتوصل إليها خدمةً للمسيرة الإنسانية ، بعيداً عن الحساسية مهما كانت لتقر الحقيقة التي أنت مقتنع بها .وقد التقيت بباحث عراقي يعمل في حقل الآثار في فرنسا منذ عام 1979 ، وقال بالنص : لقد شاهدت الأصالة ( Originality ) في الفرد الإيزيدي خلافاً لبقية المجتمع العراقي . .
ـــــــــــــــــــــ
(*) على رأي أمبسن " لأجل أن نصل إلى نتيجة قطعية في أصل المذهب الإيزيدي ، نحتاج دراسة وثيقة في أحوال الشعوب خاصة في آسيا الصغرى أكثر من إتباع لغتها ودينها .



إن التراث الديني الإيزيدي كباقي المعتقدات ، مليء بعبارات التوحيد والزهد والنسك ، وفيه معالجة وافية لمجمل النشاطات الإنسانية ، ولما للنفس من أهواء وشرور وعلاقة ذلك بسلوك الفرد وانعكاساتها على تصرف القلب والعقل ، وكيف أن لكل منهم حجة الدفاع عن نفسه ، ثم الترابط بين عالمي المادة والروح . ففقهاء الأديان عامة لم يصلوا إلى تلك الدرجات الروحية إلا بعد أن لجموا حواسهم ، وطهروا أنفسهم من الأدران والشوائب المتعلقة بالنفس ، وانزووا في أعماق الكهوف ، وأسدلوا الأبواب على أنفسهم كي يتصلوا روحياً بالخالق . وبعد رياضات مجهدة ، تفتقت أذهانهم وأفكارهم عما وهبهم الله من بصيرة كي يشرحوا واقع حال المجتمعات وما يخص الدين والدنيا ، وهي فلسفة الديانة الإيزيدية التي ابتنت أركانها على التصوف والمجاهدة ورياضة النفس بما عليها أن تتحمل من مشاق النفس لتنال رضا ربها الرحيم .
في كل مذهب من المذاهب هناك جزءاً من الحقيقة مهما كان من خطئه ، بل في كل عقيدة من العقائد مهما بلغ من تهافتها وأمر الخرافات التي قد تلتقي بها مع بعض أصحاب المعتقدات الدينية ، فإن من المؤكد أن عقائدهم كانت تحتوي في الأصل – إن لم نقل لا زالت تحتوي حتى الآن – على قسط من الصواب – قل أو كثر – وحسبنا أن ننظر إلى سائر الديانات التي طالما تمسك بها البشر وفي كل زمان ومكان لكي نتحقق من أنها جميعاً تشترك في خاصية واحدة ( على الأقل ) ، ألا وهي الإيمان بحقيقة عليا تتجاوز نطاق العقل ، وتغدو دائرة الفهم .
ففي العاطفة الدينية إحساس غامض بوجود قدرة فائقة للطبيعة لا يمكن للعقل البشري أن يفضي أسرارها ، عليه فإن "الدين " ليس شيئاً مصطنعاً أخترعه العقل البشري بوحي من نزوات خياله ، أو تحت تأثير مخاوفه وآماله ، وإنما هو وليد تأثير الطبيعة والأشياء على الإنسان ، بمعنى إنه رد فعل تلقائي للفكر والقلب البشريين استجابة لتأثير العالم الخارجي على الوجود الإنساني (1) . وبذلك يقول محمد عبدة في فلسفة تاريخ الأديان : كان من الحكمة أن يجيء دين يخاطب الحواس ( اليهودية ) ، ثم تدرجت الإنسانية ودق حسها ، ولطف شعورها ، فجاء دين يناسب هذا الحال فيخاطب القلب والشعور ( المسيحية ) . ثم بلغ الشعور الديني إكمال نضجه فظهر دين يخاطب العقل ويشركه مع العواطف والإحساس ( يقصد الإسلام ) . ولكن هذه الأديان الثلاثة متفقة في جوهرها ما دامت تنشد عبادة الله ولا تشرك به ، ولأنها نزلت لهداية الناس في صدق وإخلاص ، لأن الدين حاسة عامة لكشف ما يشتبه على العقل من وسائل السعادات ، ثم هو موازين العقل البشري التي وضعها الله لتحد من شططه وتقلل من خلطه وخبطه (2) .
ويبدوا أن معظم الفقهاء والفلاسفة الذين كتبوا عن الديانات وحللوا مفاهيمها وفسروا حيثياتها ، أشاروا إلى أن تلك الديانات ظهرت إلى الوجود بمجرد توفر المقومات المادية لها ألا وهما : النبي والكتاب . لكن الواقع الذي يشير إلى هذا المفهوم ليس بهذه البساطة ، بل أن الظرف الذي ظهرت فيه الديانة اليهودية مثلاً كان ، وكأنه رد فعل للأعمال الفرعونية التي أثقلت كاهل الإنسان ، بتحميله فوق طاقته ، ووصل الحال بالمجتمع إلى قمة الطغيان والفساد والاستغلال ، بحيث شعّرته آنذاك بحقوقه وأصبح يبتهل إلى القيم العليا لرفع الظلم المادي عنه . أي إنه أصبح مؤهلاً لأن يتقبل فكرة جديدة ، وللباري في ذلك حكمة عظيمة - ومن الفلسفة أن نشيد بدور فرعون في تقبل الإنسان لفكرة تطبيق الديانات فيما بعد – بأن يجعل من الإنسان يشعر بحقه من قسوة الظلم الذي يسلط عليه ، وهو أيضاً بإرادة منه جلّت قدرته . ومع ذلك ، وكون إنسان تلك الأيام قد تعوّد على تحمل الظلم ، كان يحصل إخفاق في إيصال تلك الرسالة إليه ، ويرغب في تحمل الظلم القديم ليس حباً به ، وإنما خوفاً من فشل تلك الرسالة والعودة به إلى قسوة الظلم السابق والبطش به من جديد ، وهكذا دواليك .
ــــــــــــــــــــــــ
(1) تراث الإنسانية ، مجلد 3 ، الدار المصرية للنشر والترجمة والتأليف : ص19 .
(2) تراث الإنسانية ، مجلد 2 ، الدار المصرية للنشر والترجمة والأليف : ص761 .



لقد رافق حال المجتمع متغيرات على واقعه ، بين ما عليه أن يتخلى عن معتقداته التي ترسخت في ذهنه وأصبحت مع الزمن جزءاً من سلوكه ومعتقده الديني ، وبين أن يتقبل الجديد الغير واضحة المعالم ، فبرزت في فكر الإنسان ما يجب قبوله بالتعليمات الربانية رداً على التصرفات المادية مثل ظلم فرعون لموسى وقومه والتي استطاع فيها التغلب على ما جرى له من امتحان ، وقبله ما جرى لإبراهيم الخليل (ع) مع نمرود ونجاته من المنجنيق الذي أنشأه نمرود له بنفسه ، وبمشاركة قومه الذين رأوا نجاة إبراهيم من المنجنيق ليكون شاهداً على عظمة الخالق أمام قومه وزرع الشك فيهم على أن هناك قوة أكبر من نمرود هي التي ساعدت على نجاة إبراهيم (ع) من نار نمرود . بعد هذه الوقائع المادية ، بدأ الشك يهاجم فكر الإنسان وبدأت معها تغيرات فلسفية في وجدانه ، بحيث اهتز لما حدث وحسب لما يدور حوله ألف حساب ، وكأن لسان حال المجتمع يدفع به إلى قبول الإرشادات والتعليمات التي يأتي بها المصلحين . وما أريد الوصول إليه هو ، أن واقع المجتمعات والتجارب المادية التي تمت الإشارة إليها ساعدت كثيراً على قبول الأفكار والإرشادات الموحى إلى الأنبياء والمصلحين ، ولكن بعد ترسيخ تلك القناعات المادية في أفكارهم ، وأن البذرة الأولى لقبول الديانات الجديدة كانت قد نمت في رحم الديانات القديمة التي ظهرت في كل من بلاد مصر وبلاد ما بين النهرين ، بدليل أن الديانات المركزية الثلاث ظهرت في هذه المنطقة .
السؤال ، لماذا لم تدخل الإيزيدية واحدة من هذه الديانات ، رغم الحملات والاضطهادات والفتوات التي صدرت من رجال الدين ونفذها قادة عسكريون راح ضحيتها مئات الآلاف من الشباب والشيوخ وسبي النساء والتمثيل والتنكيل ؟ . والجواب بكل بساطة ، إنها توحد الله قبل ظهور تلك الديانات ، وتعتبر نفسها ليست بحاجة إلى من يرشدها إلى عبادة الله على طريقتها الجديدة لأن رسوخ حقيقة التوحيد في الديانة الإيزيدية لا يرقى إليها أية عقيدة ، وذلك واضح من الأدعية والابتهالات والنصوص الدينية المتعددة سوف نأتي إلى ذكرها لاحقاً إن شاء الله .

علي سيدو رشو / رئيس رابطة المثقفين الأيزيديين في العراق.
Rasho_as@hotmail.com

0 التعليقات: