اراء ومقالات

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
اهلا وسهلا بكم في موقع الباحث علي سيدو رشو

لاشك بأن أية مجموعة بشرية أو شريحة إجتماعية تعيش واقعاً معينا أو تسكن رقعة جغراقية بذاتها لابد من أن تترك فيها بسماتها أو تبني لها تراثاً تعتز به وتاريخاً يشار إليه في يومٍ ما كشاهد على ذلك الوجود، وهو لسان حال مختلف الاقوام التي عاشت على مر التاريخ. فهنالك من المجتمعات مَن عرفت كيف تحفر بسماتها وتترك آثارها في التاريخ بحيث تحّدت الظروف وتخطّت الصعاب التي اعترتها وكتبت، بل وأمنّت لنفسها البقاء والنجاح رغماً عن أنف كل تلك المعوقات التي صادفتها. وهنا لابد من الاعتراف بانها لم تصبح كذلك إلا لأنها أرادت لنفسها البقاء والخلود ودرست الظروف المحيطة بموضوعية وواقعية، وهذا يتطلب ثمناً يجب أن تدفعه لكي تفوز بذلك القسط والحيز من التاريخ. فأي عمل ما لم يتصف بروح المغامرة (أعني بروح المغامرة، المبادرات الخلاّقة)، والتضحية من أجل البقاء، فسوف يبقى جامداً وانعكاساً للزمن القديم ولابد من أنه سينتهي بما لايسر وبنهاية غير موفقة، وهو قد لا يختلف سواء كان ذلك مع حالة أشخاص او مجتمعات أو حتى حال الدول. وأن الذي يؤجج روح المغامرة في النفوس هي المعاناة التي مرت عليها، بينما الذي ينبِه إلى تلك الروح والمعاناة ويبرزها ويغذيها ومن ثم يحركها في الاخرين، هم دائماً الصفوة من الأفراد رجالا كانوا أم نساء.


فهنالك الكثيرين ممن ساهموا في الإبقاء على مفردات الموروث وتطويرها في الوطن، وكذلك العديد من الذين سافروا أو هاجروا أو هجٍِروا حاملين معهم عاداتهم وتقاليدهم وقيمهم الشرقية وخصوصيتهم الايزيدية، هاربين من جحيم أوطانهم التي بدت لاتطاق، أو طلباً للعيش بشرف وكرامة عندما فقدوها في اوطانهم والتي أصبحت هي الاخرى مشكلة العصر في العالم العربي، للأسف، بسبب سيطرة التخلف وانحسار سلطة السيف والدين في نفس الشخص أو بيد نفس الفئة. ولكن القليل مِن هؤلاء مَن أخذ المبادرة تفضيلاً على المعيشة أو الملذات أو جمع المال ليحفر بسمته في تاريخ الهجرة في وطن ليس وطنه وارض ليس له فيه جذور. أي أن الذي يريد أن يكون من الصفوة، فسوف يبحث عن غير هذه المجالات التي تم ذكرها، وإنما سيبحث عن تلك الملذات لغيره وسيدفع ثمناً باهظاً من جيبه الخاص، قد تصل حياته أو حياة عائلته، ليفوز الاخرين بثمرات أتعابه ونضالاته غير آبهاً بما يقوله الاخرين عنه إيماناً منه لما يقوم به. هذه هي مواصفات الصفوات الذين يرون المستقبل بعين غير العين التي يراها غيرهم بها الحياة ليس لانهم لا يتمنون الحياة والرفاهية، وإنما هنالك أولويات في اجندات حياتهم. وهم ايضاً يبحثون ضمناً عن الرموز والبدائل الذين بامكانهم أن يصبحوا العون في الظل ليصبحوا من الجيل الثاني للصفوة. وبذلك يتم خلق سلسلة من الاجيال التي تربط حلقات الحياة ببعضها وتشدها باقوى ما يمكن لكي تتماسك بوجه التحديات التي يجب التحسب لها لانها ستواجههم بالضرورة. وفي تصوري فإن اليهود تصرّفوا بهكذا روح بعدما أهينوا من كافة المجتمعات التي عاشوا بينهم مما اثير فيهم تلك الروح المغامرة واخذتها الصفوة منهم هذا الامر على عاتقها وكان النجاح حليفهم بالتأكيد بعد دراسة متأنية لواقعهم ودرسوا الممكنات ومن ثم انطلقوا من تلك الممكنات.

هنا أود أن اشير إلى واقعة حقيقية تاريخية حصلت في الولايات المتحدة الامريكية عندما كانت مستعمرة بريطانية وكان الانكليز يعاملون الامريكان كالعبيد ويسرقون اموالهم كما هو حاصل الان في العراق وتسلب حرياتهم ويتعاملون معهم بخشونة ورعونة المحتل المستعمر. في عام 1776، اعلنت الولايات الامريكية استقلالها عن بريطانيا، ومن ثم بدأت الحرب الاهلية بالاشتعال والتي دامت عدة سنين راح ضحيتها الكثير من النفوس والممتلكات. ولكن ماذا حصل للقادة الامريكيين (الصفوة)، ال 56 الذين وقعوا على وثيقة الاستقلال من بريطانيا؟ (5 ) منهم ألقي القبض عليهم وعذّبوا حتى الممات. (12) منهم سويت بيوتهم بالارض وأحرقت امام اعينهم. (2) منهم فقدوا أولادهم وهم يخدمون الثوار وماتوا من غير ان يعرَف مصيرهم. (1) مات ولداه من التعذيب امام اعينه. (9) منهم حاربوا وجرحوا وماتوا على اثر جروحهم. كارتر براكستون، الفلاح والتاجر الغني من فرجينيا رأى سفينته الخاصة تقاد من قبل الجنود الانكليز وباع بيته وجميع ممتلكاته ليسدد بها مستحقاته من الضرائب ومات فقيرا. ثوماس مكيم عمل في الكونكرس بدون مقابل وأخفيت عنه عائلته واحجبت عنه وظيفته وكان الموت فقرا بانتظاره. الجنود البريطانيين سرقوا جميع ممتلكات كل من (ديلري، هول، كلايمر، والتون، كيونت، هيوارت، ريتولدج وميدلتون). أثناء الحرب في وورك تاون، الجنرال الانكليزي استولى على مسكن ثوماس نيلسون ليأخذه مقرا له وقد طلب ثوماس من جورج واشنطن باضرام النار في بيته وفعلا تم حرقه امام اعينة ومات ثوماس من الحسرة والالم. تم تدمير ممتلكات وبيت فرانسيس لويس وسحبت زوجته من امامه واودعت السجن إلى أن ماتت في السجن. بينما تم سحل جون هارت أمام زوجته وهي تحتضر سكرات الموت وفر أطفاله ال 13 من الموت ودمرت كامل ممتلكاته وبعد سنة من العيش في الغابات والكهوف عاد ليرى بأن زوجته قد ماتت ولا أثر لأولاده وبعد اسابيع مات من الحسرة على ما جرى بحق، هذا الذي حدث في بداية استقلال أمريكا من بريطانيا. وكان هؤلاء الأشخاص ال 56 يحسبون أيامها بان جهودهم هذه قد ذهبت أدراج الرياح ولم يتوقعوا بأن جهودهم ستثمر، ولم يكن في حسابهم بأنهم سيخلدون في التاريخ ويصبحون الاباء الروحيين العظام للشعب والحكومة الامريكيتين في المستقبل.

فالالاف من العراقيين اليوم يعانون نفس معاناة هؤلاء الابطال الذين ضحوا بحياتهم وأطفالهم وممتلكاتهم قربانا لمستقبل الاجيال وحفاظاً على كرامة الوطن والوطنية، وإنني لعلى ثقة بأن الاجيال ستذكر بالفخر والاعتزاز كل مَن عرّض حياته وعائلته للخطر قربانا للغير وهو ما أعني بالصفوة في مثل هذه المناسبة. وهنا نقول بأن الاهداف والمطاليب العظيمة والنبيلة تتطلب تضحيات عظام أيضاً وأن الله خلقنا في هذا الوقت ليس عبثاً وإنما لنقل رسالة إلى الأمام والاخذ بيد الاجيال لمستقبل أكثر إشراقاً. فالفنان والرسام والكاتب والشاعر والناقد والشهيد والجريح والصديق كلهم سيصبحون الاباء الروحيين في المستقبل ودعوتي هنا أن لا أحد يقول بأن جهدي قد راح عبثاً لأن التاريخ سيسجل كل موقف في خانته وسيأتي اليوم الذي يفرز فيه الغث من السمين، وهذه هي معادلة الحياة. كما حصل في تبرع السيد حميد ميرو الذي لم يدم أكثر من ساعات حتى بان زيف ذلك التهريج.

إذن ماذا نريد من هذه المقدمة البسيطة لكي ندخل الموضوع المعني؟ فالتراث، أي تراث، هو عبارة عن موروث وتراكم من القصص والحكايات والبطولات والالعاب والاعمال المختلفة والحرف اليدوية وعادات الزواج والختان والموتى والدفن والفنون باشكالها (الغناء والنحت والرسم والرقص والعزف والوشم وغيرها) والتراث الديني واللبس وغيرها الكثير من المفردات التي تتميز على ضوئها المجتمعات عن بعضها. وكما قلت سابقاً، فإن أي مواطن عراقي بالغ من العمر الآن بما يقارب 50 سنة، فإنه يكون قد مر بتغيرات دراماتيكية بما لم يشاهده غيره من أحداث التاريخ لما يفوق ال 500 سنة قياساً بما حصل لحال مجتمعات مستقرة من حيث الانقلابات السياسية والحروب التدميرية الداخلية والخارجية وما حصل من تغيرات مجتمعية في العراق. وأن هذا الامر حتما أنعكس سلباً على مجمل حركة الحياة بما فيها أشد الفئات الاجتماعية ضيقاً في الفكر أو التحفظ أو التقوقع، وبالتالي على الاداء الفلوكلوري الاصيل لتلك المجموعة او الشريحة المتعصبة لتراثها الخاص بنسبة معينة سلبا أو إيجاباً وسببت في ضياع الكثير وفقدان بعض أهم تلك الحلقات التي صنعتها الصفوات.

فمن بين هذه المجتمعات مَن بقى متمسكا بقدر كبير من ذلك التراث كونه يمثل الاغلبية بحيث لم يظهر عليها آثار التغيير بشكل محسوس. بينما هنالك مجتمعات مَن تجلّى فيها التغيير بشكل درامي ومحسوس، خاصة تلك التي تتمتع بخصوصية معينة، ومن ثم تأثير الغير عليها بحكم الفروض السياسية والتقلبات المصلحية بهدف مقصود من غير تحسّب وتدقيق من المعنيين لما يجري بحقهم ومن حولهم. وإنما مجرد الركض وراء العواطف واللهث خلف المصالح الشخصية والاعلام الزائف على حساب الحقائق ومستقبل الاجيال. ولو نفحص تراث وتاريخ المجتمع الايزيدي نراه في جلّه محفورا ومحفوظاً في ذلك الكم الهائل من القصص والملاحم البطولية التي قادتها تلك الصفوات الخيّرة التي قارعت الظلاميين من الذين نفذوا فتوات ذلك النفر الجاهل بآيات الله. ومن تلك الرموز أمثال إيزيدي ميرزا وشيخ كالو وسمو فاطمي وعلي بك ودرويش عبدي آغا وشيخ ميرزا القوسي وداود الداوود وخنسى رشو وميان خاتون وغيرهم الكثيرين.

واليوم ليس أقل شأنا من ذلك الامس بما يقدمه الاخيار في ساحة العمل ومقاومة الفكر الظلامي من خلال دم الشهداء الاحياء، وبالقلم والقصيدة والريشة والفكر والكلمة والمنظمة الجماهيرية على مستوى الشاب والمرأة والشيخ والكاتب ورجل الدين كل حسب امكانياته. كما يقوم به أخينا الدكتور ميرزا من خلال جسره الجوي العظيم في الشأن الانساني كمثال على ذلك وليس فقط كونها افضل الاعمال، فهنالك ما تقدمه القنوات الاعلامية المميزة من نتاج الكتّاب الافاضل وبعض النساء الفاضلات أمثال الاخت سندس سالم والاميرة عالية وهدية خلف ونازدار وغيرهن. إذن هكذا يتم خلق التراث وتتجمع مفرداته بشكل يومي ليتراكم في المستقبل ويضاف إليه من الاجيال القادمة.

فلنرَ ما يجري في مناطقنا (سنجار وبعشيقة والشيخان، وفي سوريا وتركيا وجورجيا) من تغيير سلبي في شئون الحياة من حيث العادات والتقاليد والموروث الاصيل الذي اصبح هو الاخر من التراث الذي لم يعد له وجود. صحيح هناك تأثير جبّار للعولمة على المجتمعات الضعيفة والتي تشكل الامية فيها من أكبر التحديات كونها لم تعد تقاوم التغير بسبب الجهل وعدم إمكانية مواكبة التطور الهائل، ولكن على الصفوات أن تنتبه لما يحصل. فأين التعاون والصدق والجيرة واللبس وعادات الزواج والاغاني والدبكات وأحاديث البطولات والعشق والنخوة وحملات التعاون فيما بين العشائر المتجاورة أيام المحن والشدائد؟ وهنا لست أعني بالرجوع إلى العشائرية. أين كانت العشائر الايزيدية الاصيلة من كارثة تل عزير وسيباية الشيخ خضر يوم الثلاثاء الاسود من عام 2007؟ لماذا تأخرت في إخلاء الشهداء وانقاذ الجرحى من تحت الركام المهدمة؟ لماذا تأخروا عن فعل ما مطلوب منهم في هذا الشأن؟ ماذا قدموا من مساعدة من حيث نصب الخيم وتقديم الاكل والمعونة ومياه الشرب للبقية من تلك العوائل المنكوبة؟ لماذا لم يتحّدوا منع التجول المفروض تعاونا مع الارهاب في بعض أوجهه من غير قصد؟ أليسوا هم نفس الشيوخ والعشائر التي كانت تنصب الخيم وتقيم الولائم في مناسبات يوم الميلاد الميمون للرئيس القائد؟ ماذا جرى لكي تنكس تلك العشائر الاصيلة برأسها وكأن الامر لا يعنيها سوى في الشكليات من الامور وكأنه مجرد إسقاط فرض ليس إلاّ؟ إذن، هكذا تموت المجتمعات عندما تدوس على قيمها وتترك الساحة للغير لكي يلعب بمصيرها، وهذا الغير هو الذي يرسم لها خطوط التراث وحفر البسمات على صفحات التاريخ، بل ويحفر لها الخنادق بحسب ما تقتضيه مصلحته وليس ما هو حقيقي على ارض الواقع من مصلحة تخص تلك المجموعة من البشر.

لقد فرِضت الثقافة العربية على الإيزيديين ردحاً من الزمن بحكم الظروف والهيمنة والمخالطة، مدّعين بانهم من صلب الاصل العربي. ومن هذه الفروض القومية العربية إجباراً وطمس الخصوصية المجتمعية محاولين في ذلك تشويه كل الحقائق بما فيها حقيقة الاعتقاد والدين وما رافق ذلك من الملبس والاسماء وباقي مفردات التراث. ومنها تكريس العادات العشائرية في القتل والبطولات الفارغة والسرقة والعنف، ولكنها لم تكن تخلو من الشجاعة والتضحية والنخوة والكرم. وكان (للقبول) بكل ذلك تبريره الذي يجب أن لا يلام عليه المجتمع لمجرد العاطفة والقول بالسطحيات من الامور نظراً لطبيعة الحكم والحكام والظروف غير الموضوعية الخلاّقة بهدف تدوير سير الفئات المجتمعية والاقليات باتجاه مصلحة جهة معينة ليس لهم فيها رأي، ولا حول ولا قوة.

وعلى الجانب الثاني، بدت الثقافة القومية الكردية اليوم بالطغيان على الثقافة الخاصة بالإيزيديين وخصوصيتهم من خلال مركز لالش بالدرجة الاساس وفروعه المنتشرة كالسرطان في الجسم الإيزيدي، وسيطرة الاحزاب الكردية بتكريد الحياة رغما عنهم من خلال مختلف القنوات الحزبية والجماهيرية، وتجريد الايزيديين من خصوصيتهم حتى في أدق المفاصل.

وهنا، بالتأكيد، سوف تتعالى أصوات بعض الجهلة والمأجورين بأن علي سيدو يقف بالضد من السياسية الكردية كما أسمعها كل يوم. ولكنني أقولها وبكل ثقة، بأننا كإيزيديين ناضلنا من أجل تحقيق المصلحة العليا للشعب الكردي أكثر بكثير من شيوخ الهركية والسورجية والزيبارية وغيرهم الذين تشهد لهم ساحات الموصل الحدباء بالرقص ونحر الذبائح ايام الميلاد الميمون للرئيس القائد، والاسماء ال 264 من أولئك الشيوخ، المنشورة في صوت كردستان: (والاسماء الاتية عبارة عن اسماء الاكراد الجحوش المرتزقة (حسب تسمية الشعب الكردي لهم)الذين كان لهم يد في عمليات الانفال حيث دمروا وهدموا وهتكوا اعراض الكورديات من بنات جلدتهم مقابل كلمة واحدة الا وهي ( عفيه) من قائدهم البعثي العفلقي المقبورصدام. بدءاً ب، إبراهيم نصراللة وانتهاءً ب، محمد سعيد أحمد هاروني)، خير دليل على ذلك.

كانت سنجار وبقية مناطق سكنى الإيزيدية تغلي ايام السبعينات تأييداً للحركة الكردية (وأتذكر في مقابلة للمرحوم خضر حسون مع البارزاني الراحل عندما قال له؛ نحن في سنجار نريد الاسلحة لكي نقوم بواجبنا تجاه الحركة الكردية، فرد عليه البارزاني قائلا: اليوم وضعكم تحت السيطرة والمهم أن تحافظوا على عوائلكم، ولكن سنحتاجكم في موقف معين يوما ما وعندها نريد منكم ذلك الموقف)، وقد تجلى هذا الموقف بعد سقوط النظام بالدعوة التي وجهتها وجهاء الايزيدية بدخول القوات الكردية للمنطقة وحافظت عليها وعلى ذلك العهد لحين ان تم تسليمها إليهم.

ولم يتأخر رد الفعل من السلطة والحكومة آنذاك، فقاموا بتجميع الايزيديين في مجمعات قسرية وتمت السيطرة على هذا التجاوب الايزيدي مع القضية الكردية على الاقل في العلن، وعمدوا على إضاعة حلقات البناء التراثي لعقود من الزمن في القرى التي كانوا يسكنوها قبل التجميع بما في ذلك تسوية القبور في بعض الاماكن لمحو اي اثر لوجودهم. والسبب في ذلك هو هذا التعاطف والتعاون الذي أبداه الإيزيديين مع السياسة الكردية أملا منهم في ان تكون القضية الكردية عونا لنصرتهم في المستقبل على هذا الاساس. ولكن، إذا ما أصبح الساسة الاكراد مع التذويب لخصوصية الإيزيديين، فسوف نقف ليس فقط بالضد منهم، وإنما نطالب الجهات الدولية بحمايتنا منهم وعندها سيكون لنا وضع مثلما كانوا هم منذ 1991 تحت الحماية الامريكية لأننا نتمتع بوضع جغرافي متميز، ونتمنى أن لا تصل الامور إلى الحد الذي يجعلنا ان نصل إلى ذلك اليوم لأن المجتمع الايزيدي لا يريد أن يخسر تلك الفترة من النضال ودماء الشهداء الذي سال تاييدا لتلك المواقف. ولهذا فإن لم يتعضوا من دروس التاريخ الحديث، فإنهم سيقعون في نفس مشاكل الانظمة العربية القومجية التي تميزت سياستهم بقهر الاخرين وتخوينهم وإنكار حقوقهم وبالتالي من السهل دق الأسفين بسهولة فيما بينهم وأقرب الحلفاء، خاصة إذا ما عرف الايزيديين باستغلال موقعهم وجغرافيتهم. فالحياة والسلطة لم تدم لأحد أبد الدهر، وأن الظرف الدولي يختلف اليوم عما كان قبل قرن من الان. فنحن نؤيد السياسة الكردية ضمن العراق الموحد بحيث لاتخدش خصوصيتنا وكرامتنا التي تعتبران خطا أحمرا لكل من يريد أن نتعاون معه.

لقد قرأنا قبل ايام بأن مجموعة لا تزيد على 120 الف نسمة من الهورمانيين في قلب كردستان يريدون تأسيس حزب سياسي خاص بهم، ويرفضون حتى القومية الكردية للحفاظ على خصوصيتهم العرقية، على الرغم من أن فيهم من الوزراء واعضاء البرلمان يفوق نسبتهم بأضعاف استحقاقهم النسبي لعدد السكان. فهل يحق لأحد أن يكبح جماح من يريد أن يتحرر من القيود وهو يشعر بعدم الامان إلى قادته السياسيين؟ ولو كانوا يشعرون بالامان في ظل الاحزاب الكردية الحاكمة، هل كانوا سيفتشون عن مثل هذه الأمور؟ إذن هنالك خطر داهم يجب التحسب له، وليس في هذا عيباً أو نقصاً في الولاء بقدر ما هو وضوح وشفافية في الرؤى لأن السياسة ليس فيها عيب أو خجل أو عاطفة أو قصور في حالة المطالبة بالحقوق الاساسية وهي ليست ملك شخصي لأحد ما، وإنما استحقاق انساني تقوده مجموعة بالنيابة عن غيرها والدليل هو وضع الاكراد الان مع الساسة العراقيين بشأن كركوك وغيرها من المناطق المتنازع عليها رغم الوعود التي تلقوها في فترة ماقبل السقوط.

فمن الطبيعي جداً أن يتفهم الإيزيديين وضع كردستان الذي يزداد فيه عدد الجوامع بمتوالية هندسية وقد تعدى العدد الأربعة آلاف جامع، ومن ثم نمو التطرف الاسلامي، خاصة إذا ما علمنا بأنه في هذه السنة لوحدها تقدم 151 طلبا ببناء الجوامع في كردستان. وهذا ليس خوفا من الاسلام كدين، ولكن الخوف من التطرف والجهل بالدين رغم التوجه العلماني لمعظم القيادات الكردية. فهل وضع الايزيديين في كردستان مأمون العواقب بدون ضمانات دستورية مكتوبة في ظل نمو وتزايد هذا الفساد الاداري والمالي والاجتماعي والاخلاقي والسياسي؟ وهل مستقبل كردستان يبشر بالخير في ظل المعطيات المكشوفة على الاقل لحد الان لكي نرمي بالمجتمع الايزيدي على كف عفريت غير مأمون العواقب؟ ويجب ان نقول بدون خوف بأن على الاقليات الدينية والعرقية أن تلجأ دوماً إلى الدولة لحماية نفسها. فماذا قدمت حكومة كردستان لأهالي تل عزير وسيباية الشيخ خضر سوى الاستفادة منها ماديا ومعنويا وإعلاميا على حساب دماء الابرياء؟

وعلى هذا الاساس، فإننا نرى بأن على القيادات الايزيدية ان تقيس الامور بمقياس ومنظور عقلاني وأن لا ترمي بنفسها وناسها في حضن أية جهة سياسية ما لم تشعر بالدفء فيه وتطمأن إليه، لأن فرص التاريخ لا تتكرر بسهولة، وهو ما أعني به بأن المجتمعات تخلق لنفسها التاريخ عندما تستثمر الفرصة الملائمة وتتصرف بحكمة في استغلال الظرف كما يفعلها الساسة الاكراد اليوم، وهو موضع احترامنا. ولست أعني بالحضارة بناء عمارات او دور فارهة، بقدر ما أعني به استغلال الظرف وقوة القرار وفرض أحقيته والمطالبة ببناء الجامعات والمعاهد لتخريج علماء على قدر عالي من العلم والمعرفة وتنمية دور المرأة بشكل فعّال لكي يبنوا اسس الحياة لاستيعاب التطور بمراحله والسير في مدارٍ صحيح، مع الاهتمام المتوازي بالشأن الداخلي للتنمية المجتمعية وبناء الفكر والقدرات.

فبإمكان القيادات الايزيدية أن تعاهد القيادات الكردية بالولاء المخلص وفي نفس الوقت تفرض احترامها عليهم من خلال المطاليب المشروعة حسب الاستحقاق السكاني والسياسي والعمق الجغرافي والمصير المشترك وليس الاستجداء والعيش على الفتات، وانا واثق تمام الثقة، وهو نفس تفكير القيادات الكردية، بأنهم غير مطمئنين إلى إخلاص الايزيديين لكردستان بسبب اوضاع ساهم البعض من الأكراد أنفسهم بخلقها. فأين هي مستحقات الايزيدية من ميزانية الدولة مثلا؟ ومن يتولاها؟ وأين هو مستوى الخدمات المقدمة في مناطقهم؟ ولماذا هذه الهجرة المستمرة وخاصة الكفاءات؟ وكيف سيتم التصرف مع هذا التقوقع المفروض؟ ولماذا لا تقيم الشعائر الدينية في لالش في الوقت الذي تنعم كردستان بالأمان؟ وما هو مستقبل خريجي الدراسة الاعدادية لسنتين متتاليتين وآلاف الطلبة الخريجين؟

إن الانسان إذ يشعر بالاسى والقرف من قراءة البرقيتين السياسيتين للإتحاد الوطني الكردستاني والسيد كوسرت رسول لمناسبة مرور عام على كارثة تل عزير وسيباية الشيخ خضر (الابادة الجماعية)، لما في تلك البرقيتين من شرح سياسي ودعوة لتطبيق المادة 140 فقط من حيث المعنى والدعوة، وليس التعزية بمعناها ومغزاها وكأن السيد رسول يدير اجتماعاً حزبياً في تلقين التعليمات بخصوص تطبيق تلك المادة، في الوقت الذي لا يزال دم الشهداء الابرياء لم يجف بعد، ويسيل على الارض. والظاهر من فحوى البرقيتين هو إنه لو كانت المنطقة محسومة الامر لصالح المادة 140، لما حصلت الكارثة متناسين بأن المنطقة برمتها كانت تحت السيطرة الكردية وقواتها المسلحة والامنية والاستخباراتية وأنها كانت على علم اليقين بتهديدات إبادة الايزيديين وأن الذي جرى كان بسبب هذا الاستحواذ الكردي على المنطقة من خلال التسهيلات التي قدمها الايزيديون لهم وكأنه هذه هي المرة الاولى التي يدفع فيها الايزيديون ثمناً لهذه القضية. فلعلم السيد رسول (وهو يعلم بالتاكيد)، بأنه هنالك شهود عيان من سيباية الشيخ خضر الذين ابلغوا المسئول الحزبي فيها عن وجود شاحنات غريبة في غرب مجمع الشيخ خضر قبل الانفجار بثلاث ساعات ولم يفق السيد المسئول من نومه، وحتى لم تتم محاسبته على إهماله من قبل أية جهة، وكان من الممكن تفادي الكارثة بكل بساطة. وقد مرت الشاحنات الاربعة من أمام قوات البيشمركه الذين جيئت بهم لحماية المصالح الحزبية ونشر الذعر ولم تحرك ساكنا في منعها من الدخول علما بان الشاحنات دخلت من جهة الغرب وليس من الجهة المعتادة في دخول الشاحنات للمنطقة. وفي هذا المفصل لا يوجد فرق بين الذي نفذ الجريمة وبين الذي غض الطرف عنها أو أهمل في واجبه تجاه وضع أمني خطير في مثل هذا الوضع والحجم. إذن ماذا يمكن أن نسمي هذا الحدث؟ أليس هو جينوسايد بحق وحقيقي؟

ويتبين من قراءة البرقيتين ايضا بأنه إذا ما تمت إنضمام سنجار إلى كردستان، فإن القيادة الكردية قد خصصت برنامجاً مكثفاً للإعمار. متناسياً بأنه يستقطع حصة سكان سنجار من ميزانية الدولة منذ خمس سنوات والتي لا تقل سنويا عن ملياري دولار وتصرف في بناء عمارات ومدن سياحية في كردستان. ولو جمعت بعملية حسابية بسيطة وحساب الكمية من المبالغ التي صرفت على شراء الذمم ورواتب المناضلين (القدماء والجدد، وهم نفس الاشخاص طبعا وبكل أسف)، فإن حصة قضاء سنجار المتبقية من تلك المبالغ لا تقل عن خمسة مليارات من الدولارات. وبهذا ستكون خطة إعمار سنجار بعد الانضمام مكرمة من السيد رسول لأهالي سنجار. فعلى مَن هذا الضحك يا سيد رسول؟ وهكذا فإن جهات معينة تمحي تاريخ وخصوصية مجتمعات بكاملها تحت شتّى المسمّيات والحجج وتجعل من نفسها الوصية عليهم بدون وجه حق وكأنهم ليسوا سوى بيادق يتم تحريكهم حسبما تتطلبها مصلحتهم.

لذلك، على الايزيديين الذين يطالبون بانظمام مناطق الايزيدية إلى حضن كردستان الدافيء بدون ضمانات دستورية ومادية أن يعلموا بأنها النهاية الحتمية والحقيقة لهذه الديانة وتاريخها، ولو حصلت تلك الضمانات سنكون من الاوائل الذين يباركون لهذه الخطوة. فالواقع يقول بأن عموم حركة الشارع الكردستاني، بالنسبة للإيزيديين على وجه الخصوص، تسير اليوم على حسب ما ورد في افكار السيدين آزاد سعيد سمو وأنس الدوسكي، وما أكثر الادلة على ذلك؛ منها الاعلام الجبّار في موضوعة قتل دعاء وطرد العمال وضيق الخناق والتغيير الديموغرافي وتحريم التعامل مع المنتوجات الايزيدية والتعيينات الاساسية والحساسة وغيرها الكثير. وفي الوقت الذي لايجوز إنكار الادوار الايجابية التي تحققت، ولكنها لاتصل إلى أدنى مستوى مقابل التضحيات الجسام التي ضحت من أجل هذا الطريق.

أما بخصوص المهجر والمهاجرين، فيحضرني في هذا المجال أن أشرح الوضع التالي: في خمسينات القرن الماضي وبحكم قرب سكنة بعشيقة وبحزاني من مركز مدينة الموصل وتأثير ثقافة الحزب الشيوعي على أهالي المنطقة، انخرط العديد من تلك الاجيال في التعليم وبالاخص في مجال التربية والتعليم الابتدائي وتخرجت أجيال من المعلمين في تلك الفترة. وكان لهم الدور الرائد في تنمية وتطوير التعليم في مناطق كثيرة مثل سنجار والشيخان بما فيها المناطق العربية حيثما انتشروا خاصة وأن الناس شعرت بإخلاص ذلك الجيل من المعلمين المخلصين للوطن والوطنية. وعندما سئل البعض منهم آنذاك، لماذا تركزون فقط على تخريج المعلمين؟ قالوا بأن هذا النهج هو أقصر ما يمكن من حيث الفترة الزمنية وهو أن مدة الدراسة هي سنتين فقط وأيضاً لاختصار الطريق بتخريج الاجيال المستقبلية من الأطباء والمهندسين وبقية الكوادر المتقدمة. لقد كانوا على صواب لأن فترة التعليم كانت قصيرة ولا تحتاج مطاليب مادية كبيرة بسبب التسهيلات المتوفرة وتناسب دخولهم المعاشية. وبذلك تأهل ذلك الجيل لتأهيل الاجيال المقبلة وحققوا المزيد من الكفاءات وهكذا وبفخر أسسوا لمنطقتهم اكتفاء ذاتي من جميع الكوادر وعلى جميع المستويات.

وعلى هذا الاساس، فإن الرواد الذين هاجروا إلى أوربا تحت ضغط الحياة ومتطلبات المعيشة شعروا بالغبن الذي يعيشة باقي افراد مجتمعاتهم وبدأوا بالمبادرة الاساسية الاولى بارسال مبالغ لطلبة الجامعة في عام 2001 والتي اعتبرتها تاج على رأس المبادرات. ولاتزال مبادراتهم مستمرة في جميع الشئون وخير دليل على ذلك هو ما قاموا به من جهد إعلامي وجمع التبرعات وتقديم العون للأيتام بتبنيهم بعد كارثة تل عزير وسيباية الشيخ خضر على حسابهم الخاص، وهذا التواصل مع العالم وعقد الندوات وحضور المحافل الدولية المهمة ومقابلة الشخصيات العالمية وشرح ابعاد وملابسات القضايا وتحليلها. ولكن، هل هذا يكفي؟ الجواب، كلا. فعليهم أن يفتشوا عن المزيد من المبادرات لخلق تراث وتاريخ متواصل مع العمق الداخلي في الوطن وبناء وتقوية الجسور من خلال الاتصال بالدول الاوربية والمنظمات الدولية لشرح ابعاد ما يتعرض له باقي افراد عوائلهم وبقية الاقليات الدينية والعرقية بين فكي كماشة الارهاب (والديمقراطية الجديدة). وفي ذات الوقت عليهم أن يلفظوا كل محاولة لطمس حقائق وخصوصيات ديانتهم تحت المسميات القومية العربية منها والكردية والاشورية، مع الأحترام الكامل لحرية الانسان بما يؤمن به من توجهات قومية ودينية بدون فرض أو إكراه أو تشهير. محاولين العمل بالتوازي مع الجميع لبناء بلد الجميع، وبتعاون الجميع لعراق موحد للجميع. فبوركتم وبوركت مساعيكم لبناء تاريخ جديد ولكنه متصل ومتواصل ومتجدد مع العمق الانساني لمجتمعكم والحفاظ على تراثه وارثه وتاريخ الابطال والبطولات دون الذوبان في الاخر مهما كان قريبا.

وختاماً، أجدد دعوتي للمؤتمر الذي طرحت فكرة انعقادة فيما سبق، وفي حال فتح حساب له، سأتبرع بمبلغ 1000 دولار وإذا ما تمت دعوتي إليه سوف أتحمل مصاريف الاقامة والسفر من حسابي الخاص. فالوقت لم يفت بعد، ولا زال بيدنا الكثير لفرض احترامنا وشخصيتنا بالتعاون مع بقية الشرائح المهمشة بدلا من الولولة والاستجداء بحكم ما نمتلك من مقومات مادية وجغرافية وعمق سكاني لا يتمتع به اي مكون من مكونات الشعب العراقي فيما لو تم استثماره بشكل مدروس وعقلاني. ومن الله التوفيق.



علي سيدو رشو

القاهرة في 20/آب/2008

0 التعليقات: